- الزيارات: 775
كلمة هنري زغيب في تكريم الأب يوسف يمين
عشاش- الأحد 10 أيلول 2000
كان ذلك منذ ثلاثمائة وسبع وستين عاما. وحدث ذلك في روما.
والمشهد هو هذا: هيئة محكمة, قضاة, هيبة قوس, وفي الوسط صوت عجوز سبعيني عليل الصحة, شحيح النظر, متعب, يجيب مرة عن الأسئلة, ويشمئز مرات فيشيح عن الجواب, لأن مستجوبيه أغبى من أن يستحقوا, في حضرته, طرح السؤال.
بعد التئام عشرين يوما أرهقت جلساتها العجوز المريض, وفي الجلسة الأخيرة, أمر القاضي بإركاع المتهم, كي يستمع راكعا إلى الحكم عليه. ثم لفظ القاضي الحكم:" حكمت المحكمة على غاليلييي غاليليو بالسجن المؤبد, لترويجه نظرية أن الشمس ليست متحركة بل ثابتة, وأن الأرض هي المتحركة وهي التي تدور حول الشمس, وهذه النظرية تخريبية لعقول المؤمنين الذين, بحسب الكتاب المقدس, يعرفون أن سيدنا يشوع بن نون, من سبط أفرائيم, وهو خادم سيدنا موسى وخلفه بحسب ما جاء في الكتاب, قد أوقف الشمس فلم تغب, وأكمل المعركة المظفرة بجيشه العبراني, فاجتاز الأردن ودخل أريحا, وانتصر على أعدائه في أرض كنعان".
بعد إعلان هذا الحكم, وفيما كان المتهم العجوز ينهض عن الأرض من ركوعه, مستعينا براحتي يديه, إذا بأقرب الجالسين إليه يسمعه يتمتم:" ومع ذلك فهي تدور".
انتهت القصة.
وها نحن اليوم مع فجر الألف الثالث, وبعد ثلاثمائة وسبعة وستين عاما على تلك الحادثة, ننعم بما يسديه العلم وتقدمه لنا التكنولوجيا, بفضل نظرية ظلت قرونا مغلوطة, حتى جاء من صححها, إنما دفع ثمنها غاليا.
gكنها ثبتت هي الصحيحة, وبطلانا كان من قبلها, وصلفا وغباء كان ذلك الحكم الجاهل الجهول.
هذا لنقول أن فردا واحدا فقط مع الحقيقة يشكل الأكثرية, وملايين الملايين، مع الخطأ يظلون أقلية لأن الحقيقة كالشمس: تحجبها الغيوم سوداها والبيض, ولكنها لا تغير حقيقتها. لا بد أن تنزاح الغيوم, ولو طالت, لتعود حقيقة الشمس, فتسطع أميرة في قبة الجلد.
رويت لكم قصة جرت منذ ثلاثة قرون ونصف القرن.
سأروي لكم الآن قصة سوف تجري بعد ثلاثة قرون ونصف القرن.
ذات يوم من عام 2367 (مثلا), وفي عاصمة كبرى من عواصم الغرب,سيقوم خطيب في احتفال, ويروي لجمهوره القصة التالية:
" كان ذلك منذ ثلاثمائة وسبع وستين عاما. وحدث ذلك في لبنان سنة 2000.
والمشهد هو هذا: ضجة إعلامية, وردود دينية, ومحاسبة وجدل. وفي وسط الحلقة راهب يقترب من السبعين, متهم بوضع كتاب (بالعربية, لغته المكتوبة على أيامه) عنوانه: "المسيح ولد في لبنان, لا في اليهودية", ورد فيه ما هو خروج على ألفي سنة من العرف, كانت تقضي حيتئذ بأن المسيح ولد في فلسطين. وهو ما تاجر به اليهود طوال ألفي عام, واستنزفوا لذلك سياح العالم, موهمينهم أن بيت لحم عندهم, وجعلوها محجا دينيا قطفوا منه خيرات السياحة الدينية والأثرية.
ومع أن ذلك الراهب أورد في كتابه صفحات ومراجع ووثائق وإثباتات وخرائط ورسوما بيانية، جميعها من الغرب المتنوِّر وليس فيها من العاطفة الشرقية شيء، فالسلطة المعنية يومها كانت نعامة عنيدة، غرزت رأسها بالرمل ولم تقبل بنظرية ذلك الراهب.
ومع أن ذلك الراهب أصدر يومها ردا ً مفحما على رأي لجنة أسقفية لاهوتية كتابية، فالجماهير المضللة باليهود عصرئذٍ، وبالسياق الديني الملازم لليهود، بقيت ترى في ذلك الراهب خارجا عن العرف، متمردا على تقاليد القبيلة، ثائرا على شرع العشيرة، وناقضا مبادئ السلك والشرع.
ومع أن شاعر العصر في أيامه، سعيد عقل، كتب أن "هذا الكتاب ثروة قلما أعطي لبنان أن يملك مثلها. وإهدن، التي أنجبت المؤلف، سيكبر بها أهلها وسيكبر بها لبنان"، بقي عصرئذٍ من لم يصدِّق أن حقيقة عظيمة، كمولد المسيح في لبنان، يمكن أن تكون في لبنان. لم يصدقوا لأنهم كانوا مساكين النفوس، ضعيفي الإيمان بوطنهم العظيم، هذا الذي نعرف عنه، علميا، انه أعطى العالم ثلثي ما نعرفه اليوم من حضارة العالم.
ولكن يومها، قام شاعر في عصر الراهب المؤلف، وكان صديقا له، فكتب عنه في جريدة "النهار" (وكانت يومها كبرى صحف البلاد) يقول (في عدد 8 شباط 2000): "ما أعظم هذا المنعطف الذي سيغيِّر مجرى التاريخ". واليوم، بعد ثلاثة قرون ونصف القرن من هذا الكلام، تبيَّن أن هذا الشاعر، صديق الراهب، كان على حق. فها قد ثبِّت اليوم أنَّ بيت لحم اللبنانية هي هي بين لحم التي ولد فيها المسيح.
وسيقرن ذلك الخطيب كلامه بالقول: "بعد أشهر من صدور ذلك الكتاب المحور، أصدر الراهب المؤلف نفسه "موسوعة الذرَّة" (بالعربية أيضا) من ثمانية مجلدات تبلغ 1968 صفحة. ومجددا بادر صديق ذاك الراهب المؤلف، وكتب في تلك الجريحة الكبرى نفسها "النهار" (بتاريخ 20 تموز 2000): "لمن كتبت بالعربية هذه الموسوعة يا أبت؟ الثلاثمائة مليون عربي لا يستهلكون كتابا بثلاثة آلاف نسخة إلا في سنوات طويلة؟ ألم تقرأ ما قاله في "النهار" (تاريخ 18 آذار 2000) كاهن مثلك هو المطران جورج خضر: "ماذا ينفع ما نكتب؟ ومن يقرأ؟ العرب أميُّون. شعبنا لا يقرأ. فلمن، لمن نكتب؟".
وسيختتم ذلك الخطيب خطابه بالقول: "كان ذلك الراهب ضحية مأساتين: الأولى أنه وضع كتابه عن المسيح بتلك الحقيقة الجريئة التي جاءت سابقة عصره, فاحترق بلهيب السلطة التي هي نفسها, من زمان زمان, أخضعت غاليليو ليغير رأيه ثم ثبت لاحقا أن غاليليو كان على حق وتلك السلطة على خطأ، والمأساة الأخرى أن ذلك الراهب اللبناني وضع بالعربية موسوعته عن الذرَّة، فكانت كنزا في بيئة ناس لا يقرأون، لأنهم كانوا عصرئذٍ منشغلين في تلافيزهم بثقافة القدمين (وكانت معروفة في أيامهم بالـ"فوتبول") وبثقافة الزنود (المعروفة على أيامهم بـ"الباسكت بول" أو "كرة السلة")، أو كانوا منشغلين ببرامج تلفزيونية أعمقها عبقرية أكثرها اعتمادا حزا زير وألعابا تافهة غبية ترضي المعلنين لأنها تستقطب أكبر عدد من الجمهور الأمِّيْ. ولو أن ذلك الراهب اللبناني وضع كتابه عن المسيح، هنا عندنا في الغرب، ولو أنه وضع موسوعته عن الذرَّة في لغتنا هنا أو في أيَّة لغة حية من لغات الغرب، لكنا نغنم اليوم من نظرياته في الذرَّة، وَلـَكـُنا اليوم نعترف له هو باكتشافه أن المسيح ولد في لبنان، وطن ذاك الراهب، ولكان سجَّـل التاريخ أن هذا الاكتشاف الريادي عائدٌ إلى راهب رؤيويِّ جريءٍ من لبنان، اسمه: الأب يوسف يمّين.